ما هي العلاقة بين الرقص الحركيّ والعسر الحسابيّ؟ وكيف يمكن أن تكون الحركة وسيلة علاجية لعسيري الحساب وعسيري التعلّم بشكل عامّ، قبل اللجوء إلى تعليم الأساس والمهارات الحسابية الأوّلية؟
ما هي العلاقة بين الرقص الحركيّ والعسر الحسابيّ؟ وكيف يمكن أن تكون الحركة وسيلة علاجية لعسيري الحساب وعسيري التعلّم بشكل عامّ، قبل اللجوء إلى تعليم الأساس والمهارات الحسابية الأوّلية؟
قد يظنّ البعض أنّ اختياري العُنوان أعلاه جاء من باب المبالغة، ولكن الحقيقة العلمية تُفيد أنّ أبحاثًا عديدة في النويرو- سيكولوجيا التطورية (علم النفس العصبيّ) أظهرت - بشكل واضح - أنّ الحركة بشكل عامّ، وخصوصًا تلك المبنية على مراحل ديناميكية متسلسلة ومركّبة، مثل الرقص والدبكة والألعاب الرياضية وغيرها، لها دور أساسيّ في تنمية القدرات الذهنية بمجملها، مثل الذاكرة، اللغة، التفكير والاستيعاب، والتركيز والسلوك بشكل عامّ.
ولتوضيح علاقة الحركة بالعسر التعلّميّ، والحسابيّ بشكل خاصّ، بوُدّي أن أتوقف عند ظاهرة العسر الحسابيّ أو الديسكلكوليا، وعند العوامل والحلقات الأساسية المركّبة لهذه الوظيفة والمشتركة في أدائها، في حين سأترك المجال للمتصفّح نفسه - ولو بشكل جزئيّ - للإجابة عن السؤال المطروح في العُنوان!
في أداء الوظيفة الذهنية الحسابية تشترك عوامل حسّيّة إدراكية وعوامل حركية، في حين أنّ لكلّ عامل أو حلقة دورًا خاصًّا ومميّزًا في أداء هذه الوظيفة. ووجود ضعف أو خلل في أحد هذه العوامل ينعكس على الأداء العامّ لهذه الوظيفة الحسابية. عَرَض العسر الحسابيّ نراه كلّ مرّة بشكل مختلف، ويتعلق ذلك بمكان الحلقة الضعيفة وبكيفية أدائها.
أمّا العوامل فهي:
1. التمييز البصريّ: المقصود به استيعاب وإدراك الشكل البصريّ للعدد والتمييز بين الأعداد والأرقام المتشابهة من ناحية الشكل الكتابيّ. هذا العامل قد يؤدّي، أيضًا، إلى وظيفة استيعاب ترتيب الأرقام المكوّنة للعدد وفرز رقْم الآحاد عن العشرات والمئات، وهكذا. في هذه الحالة، فقط، يُمكن، مثلاً، التمييز بين العدد 375 والعدد 735. يؤدّي هذا العامل دورًا مهمًّا في استيعاب الكسور والأعداد العشرية، ويساعد في عملية تحليل مركّبات العدد؛ فالعدد 9 - على سبيل المثال - مركّب من 3+3+3، أو من 5+4، أو من 3+6، وهكذا؛ وله دور أساسيّ، أيضًا، في التمييز بين الإشارات الحسابية واستعمالها لحلّ مسائل مثل 7-2=5.
وإنّ وجود خلل أو ضعف في أداء وظيفة هذا العامل ينعكس على فهم الأعداد المركّبة من أكثر من منزلة. وأحيانًا، تُستوعَب هذه الأعداد ليس حسَب موقع كلّ رقْم في منزلته، بل حسَب كبر وثقل كلّ رقْم على حِدة. فهكذا نرى أنّ العدد 489 يُستوعَب كأكبر من العدد 502، أو أنّ العدد 2987 يُستوعَب كأكبر من العدد 6112؛ وقد تظهر صعوبة في تحديد ما الأكبر، هل 54 أم 45؛ حيث الرقْمان نفساهما يظهران في كلا العددين؛ وقد تظهر صعوبة في قراءة وكتابة أعداد مع أصفار؛ فالعدد 1002 يُكتب 102، أو 109 يُكتب 100 و9، والعدد 207 يُقرأ 7 أو 20، وهكذا.
2. العامل الثاني الحسّيّ للعسر الحسابيّ يكمن في الاهتداء إلى المكان والاتجاهات (يمين-شمال، مثلاً). الاهتداء إلى المكان مهمّ في عملية التمييز بين الأعداد المتشابهة بشكلها المختلفة باتجاهاتها؛ مثل: ٦ و ٢, ١٢-١٦-٢١، وهكذا.
وفي حال لم يؤدِّ هذا العامل وظيفته بشكل كامل وسليم، نرى أنّ المسألة الحسابية المعروضة بصريًّا على الطالب ما يؤدّي، أيضًا، إلى حلّ نهائيّ غير صحيح. وهكذا نرى أنّ المسألة المكتوبة ٦ -٢١ المعروضة على الطالب، قد تُستوعَب ٢١-٢أو ١٦-٢، وهكذا.
قد لا تُواجَه صعوبة في مهارات الطرح والجمع الأساسية عند الطالب، ولكن مجرّد وجود مشكلة الاهتداء إلى الاتجاهات يؤدّي إلى تحصيل نهائيّ ضعيف ومنخفض. 3. عملية حلّ مسائل حسابية بشكل صحيح مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستيعاب السمعيّ المتزامن لأكثر من معلومة واحدة في الوقت نفسه، وبفهم المبنى القواعديّ للغة؛ حتى يتمّ فهم معطيات المسألة الحسابية - هذا هو العامل الثالث.
معروف أنّ للمسائل الحسابية لغة تميّزها، وكثيرًا ما تتكرّر؛ مثلاً، المقارنات اللغوية في هذه المسائل، والتي تتطلّب - أوّلاً - ترجمتها، فكّ رموزها، وفهمها؛ حتى يتمّ التعامل مع معطيات المسألة بشكل صحيح؛ فبدون ترجمة ماذا تعني "أقلّ بـ"، "أكثر من"، "أصغر بكذا مرّات"، "قبل"، و"بعد"، على سبيل المثال؛ لا يتمّ حلّ المسألة بشكل صحيح.
هذا العامل مسؤول، أيضًا، عن ترجمة كلمات معيّنة إلى إشارات وعمليّات حسابية؛ على سبيل المثال كلمة "اشترى" - تعني أنّه يجب إجراء عملية الجمع، المعطيات وشروط المسائل الحسابية وترجمتها إلى لغة إشارات ولغة حسابية. وفي حال حصل هؤلاء الطلاّب على مساعدة خارجية في شرح معطيات المسألة، نرى أنّ الوظيفة الحسابية تجري بسرعة أكبر، ونلاحظ تحسّنًا في الأداء العامّ لهذه الوظيفة.
4. قد يظهر العسر الحسابيّ، أيضًا، نتيجة اضطراب في العامل الحركيّ الفراغيّ، ويظهر في الحركات الإرادية الاتجاهية (الديسبراكسيا الفراغية)، حين يستصعب الطالب كتابة الأعداد المتشابهة بشكلها الصوري المختلفة باتجاهاتها؛ كما ورد في البند الثاني. والصعوبة في هذه الحالة لا تكون في الاستيعاب البصريّ لهذه الأعداد، بل في كتابتها؛ فقد يميّز هؤلاء الطلاّب بين الرقْمين ٢و٦، ولكنّهم في عملية الكتابة لا يستطيعون ذلك.
كثيرًا ما يوصف هؤلاء الطلاّب بأنّهم بطيئو الكتابة، وبأنّهم غير مرتّبين وغير محافظين على نظافة دفاترهم؛ وذلك لسبب المحاولات المتكرّرة - التي تكون مثمرة، أحيانًا - لتصحيح الخطأ الكتابيّ.
من الجدير بالذكر أنّ هذه الظواهر تظهر بحدّة أخفّ وبتكرارية أقلّ كلّما كان الضغط التعليميّ أقلّ، وكلّما كانت هناك مساعدة ودعم نفسيّ، وتوافرت ظروف إيجابية وبنّاءة.
حين يجري الحديث عن اضطرابات في أداء العامل الحركيّ (الكتابيّ)، فإنّه ليس بالضرورة أن يكون هناك عسر في حلّ المسائل الحسابية المعروضة بشكل شفهيّ - "عَ السَّمَع"، والمطلوب حلّها شفهيًّا، أيضًا؛ حيث يتمّ في هذه الحالة "تحييد" العامل الضعيف والاعتماد على القدرات التذكّرية السمعية والتركيز.
5. إنّ للعامل الحركيّ دورًا كبيرًا في الحلّ الحسابيّ؛ وذلك لأهمّيته في بناء خُطة للحلّ ومتابعة تنفيذها وتقييم مراحل الحلّ والناتج النهائيّ - هذا هو العامل الخامس.
معلوم أنّه لحلّ أيّ مسألة حسابية يجب أن تُبنى خُطّة للحلّ وتحديد مراحل معيّنة للوصول إلى الحلّ النهائيّ. كما يجب أن يتمّ التركيز في كلّ مرحلة ومرحلة، إلى جانب توافر الليونة والديناميكية في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ضمن النشاط التفكيريّ المتسلسل أو ما سأطلِق عليه ما أسماه لوريا عملية "اللَّحْن التفكيريّ"؛ عندما تحدّث عن "اللَّحْن الحركيّ" (يُنظر "الاتّحاد" 21/8/2001).
هؤلاء الأطفال يستطيعون التمييز قراءةً بين الأعداد؛ حيث يملكون مفهومًا معيّنًا للعدد ويستطيعون تحليله، يميّزون بين الإشارات الحسابية ويستطيعون تحليل المعطيات بشكل متزامن؛ لكنّ الصعوبة تظهر من خلال الاندفاعية في الحلّ، عدم التركيز، وصعوبة الانتقال من مرحلة معيّنة في عملية الحلّ الحسابيّ إلى المرحلة التالية؛ أي انهيار "اللَّحْن التفكيريّ" وظهور التَّكرارية. كما يتمّ، أحيانًا، إدخال معطيات خارجية لم تُعرَض لسبب مشاكل التركيز. ويوصَف هؤلاء الطلاّب كبطيئين (لسبب مشاكل التركيز) ويواجهون صعوبة في حلّ مسائل غير أوتوماتيكية؛ مثل: 2 + 8، التي تُحلّ أبطأ بكثير من 8 + 2، كما يواجهون صعوبة أخرى في الانتقال من طرق حلّ معيّنة غير صحيحة أو لم تؤدِّ إلى ناتج نهائيّ صحيح، إلى طرق حلّ بديلة أخرى؛ إذ نراهم منغمسين في أساليب الحلّ نفسها ويكرّرون الخطأ نفسه ويجدون صعوبة في تبنّي إستراتيجية أخرى للحلّ. هذه "القساوة" التفكيرية لا تنعكس من خلال عملية الحلّ الحسابيّ، فقط، بل، أيضًا، من خلال تعامل هؤلاء الطلاّب مع الضغوط الحياتية اليومية.
قلت - في بداية مقالتي - إنّني سأترك للقارئ إيجاد المعادلة وإيجاد الحلّ للسؤال المطروح في العُنوان، ولكن مع كلّ ذلك، بوُدّي أن اُؤكّد أنّه قُبَيْل ظهور التفكير وتطوره، كانت هناك الحركة؛ فالحركة هي الأساس الذي ظهر في البداية في عملية التطور الذهنيّ والفسيولوجيّ، وهي القاعدة التي تنطلق منها عملية بناء القدرات الذهنية كلّها وتطورها.
إنّ الحركة - وبالذات تلك المركّبة من مراحل ديناميكية متسلسلة وتوافقية - تساعد الطفل على تقوية الاستيعاب البصريّ وتنميته لديه، والاهتداء إلى المكان والاتجاه. إنّها تساعده على تنمية الوعي الحركيّ العامّ وعلى بلورة ليونة الانتقال من نشاط إلى آخر. كما تساعده على التركيز في كلّ خطوة وخطوة، وتقوّي الذاكرة للمراحل المختلفة للنشاط وتحديد ماذا بعد وماذا كان قبل، وغيرها من الوظائف التي تصبّ في بناء أساس سليم لتطور القدرات الذهنية، ما يصبّ - بالتالي - في نجاح الأداءات التعليمية كلّها، ومن ضمنها الحساب.
بفلم : د. علي بدارنة (جريدة الاتحاد 2001)
يَسرُنا ان تملأ بياناتك: الإسم - البريد الإكتروني، لكي يصلك كل الجديد حول "مركز الرازي لتأهيل الاطفال"
انستاغرام
واتسب
فيسبوك
messenger